تباين المقاربات: الصين في مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في أمريكا اللاتينية
لا يحدث الصعود المتزايد لدور الصين في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي في فراغ جيوسياسي. بل يتطور في سياق لا تزال فيه القوى التقليدية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ثم الاتحاد الأوروبي بدرجة أقل، تحتفظ بنفوذ تاريخي كبير. خطاب شي جين بينغ في الاجتماع الوزاري الرابع بين الصين وسيلاك، بما يتضمنه من تأكيد على السيادة، وعدم التدخل، والتعاون بين بلدان الجنوب، يُقدَّم – ضمنًا وعلانية – كبديل للمقاربات الغربية التقليدية. وفهم هذا التباين ضروري لتمكين دول أمريكا اللاتينية والكاريبي من صياغة استراتيجيات خارجية أكثر توازنًا وزيادة قدرتها على المناورة.
الولايات
المتحدة: عقيدة مونرو وظل الهيمنة
تأطرت العلاقة
بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، منذ القرن التاسع عشر، في إطار
"عقيدة مونرو" وتحوّلاتها المتعددة، التي عكست غالبًا نزعة إلى الهيمنة
الإقليمية. ورغم أن السياسة الأميركية تجاه المنطقة مرت بمراحل متباينة — من
"سياسة حسن الجوار"، إلى التدخل خلال الحرب الباردة، مرورًا بترويج
الديمقراطية والسوق الحرة في التسعينات، ووصولًا إلى التركيز في الآونة الأخيرة
على قضايا الأمن (مثل مكافحة المخدرات والهجرة) والمنافسة مع الصين — لا تزال هناك
نظرة سائدة ترى في واشنطن فاعلًا يميل إلى تغليب مصالحه الاستراتيجية، ويتدخل،
بشكل مباشر أو غير مباشر، في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
لطالما ارتبطت المقاربة الأميركية تجاه أمريكا اللاتينية بمستوى عالٍ من "الاشتراطات السياسية". فالمساعدات الاقتصادية، والاتفاقيات التجارية، والتعاون الأمني غالبًا ما كانت مشروطة بتبني قيم محددة مثل الديمقراطية (وفق المفهوم الأميركي)، وحقوق الإنسان، والسوق الحرة، والاصطفاف مع سياسات واشنطن في المحافل الدولية. وبينما قد يتقاطع كثير من هذه القيم مع طموحات بعض دول المنطقة، فإن أسلوب فرضها أثار شعورًا بالوصاية والانتقائية، ما ولّد ردود فعل سلبية متكررة. وفي مواجهة العروض الصينية الطموحة في مجال البنية التحتية عبر مبادرة "الحزام والطريق"، جاءت استجابة الولايات المتحدة متأخرة ومجزأة. فمبادرات مثل "إعادة بناء عالم أفضل" (B3W) — التي أعيدت تسميتها وتعديلها لاحقًا — لم تتمكن بعد من منافسة الصين من حيث التمويل أو الأثر على الأرض. وتبدو أبرز أدوات واشنطن في هذه المواجهة هي التحذير من "مخاطر الاعتماد على الصين" (من حيث الديون، والأمن، وتآكل السيادة)، بدلاً من تقديم عرض تنموي متكامل وفعّال.
الاتحاد
الأوروبي: شريك قيمي بإمكانات استراتيجية محدودة
سعى الاتحاد الأوروبي إلى تقديم نفسه كشريك "قيمي" لأمريكا اللاتينية، عبر التشديد على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعددية، والتنمية المستدامة. وعبر اتفاقيات الشراكة، والحوار السياسي، وبرامج التعاون الإنمائي، دعم الاتحاد مشاريع تتعلق بالاندماج الإقليمي، وتعزيز العدالة الاجتماعية، ومكافحة التغير المناخي، وبناء المؤسسات. ولكن رغم هذا الحضور، يواجه الاتحاد الأوروبي حدودًا في تأثيره مقارنةً بالصين (من حيث الزخم الاقتصادي) أو الولايات المتحدة (من حيث القرب الجغرافي). فطاقته الاستثمارية والتمويلية، رغم أهميتها، لا تنافس بسهولة ما تقدمه بكين من تمويل ضخم وسريع لمشاريع البنية التحتية. كما أن الاتحاد غالبًا ما يواجه صعوبة في توحيد مواقفه الخارجية بسبب تباين مصالح الدول الأعضاء. ومبادرات مثل "البوابة العالمية" ، التي تهدف إلى منافسة مبادرة الحزام والطريق من خلال مشاريع قائمة على الاستدامة والقيم، لا تزال في طور التفعيل ولم تحقق بعد حضورًا واضحًا في المنطقة. وتتضمن مقاربة الاتحاد، شأنها شأن الولايات المتحدة، عنصرًا من الاشتراطات، لا سيما عبر البنود الديمقراطية وحقوق الإنسان في الاتفاقيات. ومع ذلك، تُعتبر هذه الاشتراطات أقل فرضًا وأكثر انفتاحًا على الحوار. إلا أن الاتحاد تلقى أيضًا انتقادات تتعلق بحماية قطاعه الزراعي، وكذلك لفشله أحيانًا في تحويل خطابه "الشراكي" إلى التزامات اقتصادية وسياسية أكثر ديناميكية وملموسة.
الصين: عرض
براغماتي وتنموي بلا قيود (ظاهريًا)
يتسم النهج الصيني، كما عرضه شي جين بينغ، بالبراغماتية والتركيز على التنمية الاقتصادية كمحرك رئيسي للعلاقات. ووعد "بعدم التدخل في الشؤون الداخلية" واحترام "مسارات التنمية الخاصة بكل دولة" يمثل نقيضًا مباشرًا للممارسات التي تُنسب للولايات المتحدة، وأحيانًا للاتحاد الأوروبي. وتقدم الصين تمويلًا واستثمارات ضخمة، غالبًا ما تُوافق عليها بسرعة وبشروط أقل تعقيدًا من الناحية البيروقراطية، ودون اشتراطات سياسية صريحة. وهذا ما جعلها شريكًا مغريًا للعديد من الحكومات في أمريكا اللاتينية، بصرف النظر عن توجهاتها الأيديولوجية، إذ يرون فيها مصدرًا قادرًا على سد فجوات البنية التحتية والاحتياجات الإنمائية، دون فرض أجندة سياسية. وتعزز سردية "المنفعة المتبادلة" و"التعاون بين بلدان الجنوب" صورة الصين كشريك على قدم المساواة. لكن، ورغم هذه الصورة، تبقى الفجوة في موازين القوى والموارد واضحة. كما أن غياب الاشتراطات السياسية لا يعني غياب التأثير. فالمخاوف المتعلقة بالديون، والاعتماد المفرط، والمعايير الاجتماعية والبيئية، واحتمال وجود تأثير سياسي عبر التشابك الاقتصادي، كلها مسائل حقيقية. فضلًا عن أن نموذج الصين القائم على المشروعات الضخمة واستخراج الموارد قد لا يكون الأمثل لتعزيز تنوع اقتصادي مستدام أو تنمية شاملة.
التحدي أمام
أمريكا اللاتينية: تنويع ذكي واستقلالية استراتيجية
إن وجود عدة فاعلين
عالميين في المنطقة، يحملون رؤى وعروضًا مختلفة، يمثل فرصة وتحديًا في آنٍ واحد.
فالفرصة تكمن في القدرة على تنويع العلاقات الخارجية، وتجنب التبعية لأي طرف،
والمناورة لتحقيق شروط أفضل مستفيدين من التنافس بين القوى الكبرى. أما التحدي
فيكمن في تجنب الوقوع في فخ التنافس الجيوسياسي، أو التضحية بالسيادة على المدى
الطويل، وضمان أن تصبّ هذه العلاقات في مصلحة تنمية حقيقية ومستدامة وشاملة لشعوب
المنطقة. ولتحقيق ذلك، تحتاج دول أمريكا اللاتينية
والكاريبي إلى تطوير استراتيجيات وطنية وإقليمية متماسكة، وتعزيز قدراتها التفاوضية،
وضمان الشفافية والمساءلة في الاتفاقيات الدولية، وتشجيع نقاش عام واسع ومدروس حول
تداعيات تحالفاتها الدولية. فالمسألة ليست في "اختيار طرف"، بل في بناء
"استقلالية استراتيجية" تتيح للمنطقة الانخراط مع جميع الفاعلين
العالميين بما يخدم مصالحها السيادية المُعرّفة ديمقراطيًا.
يتبع....
#الصين #أمريكا_اللاتينية #الولايات_المتحدة #الاتحاد_الأوروبي
#الاستثمار_الصيني #الهيمنة #السيادة #الحزام_والطريق #الاقتصاد_العالمي
#تحليل_سياسي #العلاقات_الدولية #أمريكا_اللاتينية_2025
#العلاقات_الدولية
#السياسة_العالمية
#التحليل_السياسي
#الهيمنة_العالمية
#النظام_العالمي
#الاستراتيجية_الدولية
#الصين
#الولايات_المتحدة
#الاتحاد_الأوروبي
#الصين_في_أمريكا_اللاتينية
#النفوذ_الأمريكي
#أوروبا_وأمريكا_اللاتينية
#الاستثمار_الصيني
#السيادة
#الاستقلالية
#التوازن_الاستراتيجي
#اللا_تدخل
#المصالح_الوطنية
#التعددية_القطبية#أمريكا_اللاتينية
#المنطقة_اللاتينية
#أمريكا_الجنوبية
#البرازيل #الأرجنتين #فنزويلا#الديون_الخارجية
#الحزام_والطريق
#التنمية_المستدامة
#التنمية_الاقتصادية
#الاعتماد_الاقتصادي
0 تعليقات
كل التعليقات تعبر عن رأي صاحبها وليست لها علاقة بموقع المكسيك بالعربي