زلزال تجاري يهزُّ أمريكا الشمالية: كيف أعاد ترامب
كسر قواعد اللعبة؟
أصبحت اتفاقية التبادل الحر لأمريكا الشمالية بؤرة أزمة هزت كيان العلاقات التجارية، بعد أن أشعل دونالد ترامب فتيل قطيعة تجارية مع كندا رداً على فرض الأخيرة ضريبة الخدمات الرقمي . وقد تهدد تبعات هذه الأزمة اقتصاد أمريكا الشمالية بأكمله. فحين طبقت أوتاوا في 2024 رسوماً نسبتها 3% على إيرادات عمالقة التكنولوجيا داخل حدودها - شملت بأثر رجعي منذ 2022 شركات مثل جوجل وميتا وأبل وأمازون - كانت تهدف إلى الانسجام مع مسعى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية العالمي لتنظيم ضرائب العصر الرقمي. غير أن ترامب رأى في ذلك مجرد "هجوم صارخ" على مصالح الشركات الأمريكية، فقام خلال أيام بإلغاء جميع المفاوضات الثنائية مع كندا وهدد بفرض رسوم جمركية تصل إلى 25% على منتجات حيوية مثل الخشب والألمنيوم والسيارات. ومع أن المكسيك لم تكن في مرمى الأزمة بداية، إلا أن تعقيد شبكات سلاسل القيمة التي تربط الكتلة الشمالية أطلقت كل صفارات الإنذار في مدينة مكسيكو. فأكثر من 80% من صادرات المكسيك تتجه إلى الولايات المتحدة، وجزء كبير من مدخلات مصانع تجميع السيارات فيها يأتي من كندا. ولو فرض ترامب رسوماً على الصلب أو الألمنيوم الكندي، فستواجه المصانع المكسيكية ارتفاعاً في التكاليف يستحيل استيعابه دون خرق قواعد المنشأ في اتفاقية التي تشترط 75% من المكون الإقليمي، ما قد يؤدي إلى دفع رسوم إضافية أو - في أسوأ الحالات - إجبارها على نقل الإنتاج خارج المكسيك. في مواجهة هذا المشهد، فضلت حكومة كلوديا شينباوم طريق الدبلوماسية والتفاوض: فاستبعدت الانتقام الفوري - على عكس كندا التي أعلنت ضرائب بنسبة 25% على 155 مليار دولار من المنتجات الزراعية والكيميائية الأمريكية - وعرضت التعاون في الأمن الحدودي، خاصة في مراقبة التدفق المهاجر ومكافحة الفنتانيل، مقابل إعفاءات جمركية جزئية. وفي الوقت ذاته، عززت تحالفها مع أوتاوا لتقديم جبهة موحدة تمنع واشنطن من تعزيز فكرة أن المعاهدات "قابلة للتصرف".
ولا تخلو الاستراتيجية المكسيكية من انتقادات داخلية: فبينما تطالب بعض
الأوساط السياسية بتسريع تنويع الأسواق نحو أوروبا وآسيا، يطالب القطاع الأعمال
باليقين لتفكيك شبح عدم الاستقرار الذي يهدد الاستثمارات. لكن الرهان الرسمي يقوم
على الواقعية: التركيز على الحوار مع ترامب، واستغلال ورقة الهجرة كعملة مساومة،
مع استكشاف مسارات جديدة لتصدير النفط والمنتجات المصنعة خارج الولايات
المتحدة. من جانبها، سعت كندا إلى دعم من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة
لتدويل النزاع، محاولة منع اختزاله في صراع ثنائي مع واشنطن. ورغم أنها لم تتراجع
عن تطبيق ضريبة، إلا أنها مستعدة للتفاوض على تعديلات تخفف التوتر التجاري وتجنب
تصعيد يمزق اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية من جذورها.
بالمقابل، عزز ترامب خطاب "أمريكا أولاً"، مهدداً بإعادة التفاوض أو حتى
إلغاء أجزاء من الاتفاقية لصالح الصناعة المحلية. ويتفتح أمام المستقبل ثلاث
سيناريوهات:
1. الأول (الأسوأ) حيث تفرض الولايات المتحدة رسوماً شاملة، ترد كندا
والمكسيك، وتنهار سلاسل التوريد، مما يدفع المنطقة إلى ركود. او ما يسمى كابوس
2025 وانهيار البيزو المكسيكي بنسبة 30%،مما سيترتب عنه موجة تضخم غير
مسبوقة، وشلل 70% من مصانع السيارات جراء فرض رسوم صلب أمريكية تصل إلى 25% تُفلس
نحو 8 آلاف منشأة.
2. الثاني (المعتدل) تراجع فيه أوتاوا ضريبتها الرقمية وتحافظ واشنطن
على اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية مع
تعديلات طفيفة.او انتظار معجزة 2028والتي ستدفع الى تحديث عاجل
لاتفاقية التجارة الحرة بين دول
امريكا الشمالية نحو آليات استجابة سريعة
للأزمات، واستقطاب المكسيك شركات تقنية هاربة لتتحول إلى مركز تكنولوجي إقليمي، مع
تحالف تجاري جديد مع كندا والاتحاد الأوروبي يحقق نموًا محتملاً بنسبة 65%.
3. الثالث (المتطرف) يدفع فيه ترامب باتجاه اتفاقات ثنائية منفصلة، فيما تسارع
المكسيك وكندا لتوقيع معاهدات مع الاتحاد الأوروبي أو الصين أو ميركوسور لتجنب
العزلة, أي بمعنى زلزال 2030بحيث ستنقسم الكتلة الى محورين—أمريكا
الشمالية بقيادة واشنطن، وتحالف المحيط الهادئ بقيادة المكسيك—بحيث تصبح البلاد
بوابة صينية إلى الأسواق الأمريكية اللاتينية.
الضريبة الرقمية الكندية لم تكن مجرد رسم مالي؛ فقد صُممت لاستنزاف 3% من
أرباح حوالي 85% من شركات التكنولوجيا الأمريكية العاملة في كندا، مع عتبة دخلٍ
تجاوزت 20 مليون دولار أمريكي. ترامب ردّ عليها باعتبارها إعلان حرب اقتصادي،
فأوقف المفاوضات الثنائية ووقف استخدام اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية
كحاجز بينه وبين سعيه لتعزيز شعار “أمريكا
أولاً”.
وفي المكسيك، يدرك صانعو القرار أن القطاعات الصناعية، وعلى رأسها
السيارات، مهددة بالانهيار. إذ يُصنَّع 75% من مكونات السيارات عبر الحدود
الثلاثية يوميًا، وتواجه 12 ألف منشأة مكسيكية صغيرة خطر الإغلاق الفوري إن أُجبرت
على دفع رسوم جمركية إضافية أو خفض مستوى المحتوى الإقليمي تحت ضغط تكلفة الصلب
والألمنيوم. تقديرات رسمية تتحدّث عن خسائر قد تتجاوز 7% من الناتج المحلي الإجمالي
خلال عام إذا استمر التوتّر. ولتهدئة العاصفة، اتبعت حكومة كلاوديا شينباوم
أسلوبًا دبلوماسيًا محكمًا يشبه بهلوانًا جيوسياسيًا. فخلال أسبوعين، رفع المكسيك
حجم تبادلاته التجارية مع كندا بنسبة 40% بحسب بيانات البنك المركزي، واستثمر
احتياطي الغاز كسلاح تفاوضي مع واشنطن، في حين أطلقت شبكات طوارئ قانونية وتعاونية
مع ولايات كاليفورنيا وتكساس لإبطال أو تعديل أي قرارات ترامب المنعزلة.
وللبقاء على قيد المنافسة، يحتاج صانعو السياسات إلى خريطة نجاة تعتمد أربع خطوات ثورية: أولًا، تنويع الأسواق عبر تفعيل اتفاقية المكسيك–الاتحاد الأوروبي في غضون ستة أشهر، وفتح ممر رقمي مع سنغافورة لاختراق آسيا. ثانيًا، إعادة هندسة اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية عبر إنشاء “غرفة عمليات أزمات” ثلاثية متجاوزة للفيتو الأمريكي ومحكمة نزاعات مستقلة في غوادالاخارا. ثالثًا، الانطلاق في ثورة تكنولوجية صامتة عبر “مشروع غوادالاخارا الذهبي” الذي يمنح إعفاءات ضريبية لجذب استثمارات تقنية بقيمة 2 مليار دولار. رابعًا، شن حرب ظل دبلوماسية باستثمار نفوذ 37 مليون مكسيكي مقيم في الولايات المتحدة وبناء تحالفات سرية مع ولايات معارضة لترامب مثل كاليفورنيا ونيويورك وإلينوي. والأرقام تشير إلى أن الموقف الراهن أشبه بزلزال بقوة 8 درجات على مقياس ريختر الجيوسياسي.
لذلك أمام المكسيك طريقان متناقضان: الأول، طريق
الضحية الذي ينطوي على الركوع لضغوط ترامب، وضرورة دفع فاتورة تجارية باهظة مع
فقدان محتمل لـ15% من ناتجها المحلي. والثاني، طريق المهندس الذي يضع البلاد على
رأس تحالف شمالي بديل، يحوّل اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية إلى نموذج عمل جديد، ويرتقي بالمكسيك إلى قمة
القوى الاقتصادية العالمية.
اللحظات التاريخية لا تنتظر الضعفاء. إما أن نصنع المعجزة.. أو نصبح ضحية في متحف التاريخ — يقول خبراء مركز الدراسات الجيوسياسية في مكسيكو سيتي.
من هنا نستنتج بأن أزمة ترامب-كندا أثبتت بأن اتفاقية التجارة الحرة بين دول امريكا الشمالية ليست ميثاقاً ثابتاً: فبقاؤها مرهون بقدرة المكسيك وكندا على التصرف ككتلة صلبة، والتفاوض لتحقيق تنازلات معقولة، مع تنويع اقتصادهما. فقط بهذه الطريقة يمكنهما تقليل تقلبات واشنطن السياسية وضمان بقاء أمريكا الشمالية إحدى أكثر المناطق اندماجاً وتنافسية في العالم.
والسؤال الذي يطارد القارة: هل تمتلك المكسيك الجرأة لتحويل الكارثة إلى أعظم فرصة في تاريخها؟ الاجابة تُصاغ الآن في قاعات التفاوض المغلقة.
#زلزال_ترامب_التجاري
#كندا_تحترق
#اتفاقية_التجارة_الحرة_بين_دول_امريكا_الشمالية_تنهار
#حرب_العمالقة_التجارية
#سيناريو_انهيار_اتفاقية_التجارة_الحرة_بين_دول_امريكا_الشمالية
#خريطة_نجاة_المكسيك
#استراتيجية_الحياد_النشط
#سلاسل_توريد_مكسيكية
#ممر_التكنولوجيا_الحر
#تمرد_الولايات_ضد_ترامب
#الثورة_الصناعية_4_0
#غرفة_عمليات_الأزمات
0 تعليقات
كل التعليقات تعبر عن رأي صاحبها وليست لها علاقة بموقع المكسيك بالعربي