التنين في القارة: السيادة، عدم التدخل، والشطرنج الجيوسياسي لشي جين بينغ في أمريكا اللاتينية
في عالم يزداد ترابطًا، ويشهد في الوقت ذاته توترات جيوسياسية متصاعدة، لم يكن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال افتتاح الاجتماع الرابع لوزراء منتدى الصين–سيلاك (مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي) في 13 مايو 2025 مجرد مناسبة دبلوماسية بروتوكولية. فقد حملت كلماته دلالات رمزية قوية ووعودًا ملموسة، كان لها صدى خاص في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وهي منطقة تمر بمرحلة مفصلية تعيد فيها تشكيل تحالفاتها وموقعها في النظام الدولي متعدد الأقطاب الآخذ في التبلور.
ودعا شي الدول اللاتينية بأن "تدافع
عن سيادتها واستقلالها الوطني" و"ترفض التدخلات الخارجية"، مع حثه
على "اتباع مسارات تنمية تتناسب مع ظروفها الوطنية"، تلخص جوهر الاستراتيجية
الصينية تجاه منطقة باتت حيوية لبكين نظرًا لمواردها الطبيعية، وسوقها الواسعة،
وتصاعد وزنها في المحافل الدولية.
ونتطلع من خلال سلسلة من المقالات إلى
تقديم دراسة سياسية نقدية ومعمّقة لهذا الخطاب وما يحمله من مضامين استراتيجية. ولا
يتعلق الأمر فقط بفك شيفرة اللغة الدبلوماسية الصينية، بل بوضعها في سياق العلاقات
الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية التي نسجتها بكين مع أمريكا اللاتينية خلال
العقدين الماضيين، لا سيما منذ إنشاء منتدى الصين–سيلاك قبل
عشر سنوات. وقد جاءت المشاركة غير المسبوقة لرؤساء البرازيل وتشيلي وكولومبيا
(التي تتولى الرئاسة المؤقتة للمنتدى) في اجتماع بكين لتؤكد أهمية اللحظة واستعداد
الفاعلين الإقليميين الرئيسيين لتعميق الحوار مع الصين.
سوف نناقش كيف أن التركيز على مفهومي
"السيادة" و"عدم التدخل" ينسجم مع السردية الصينية حول
"الجنوب العالمي" المتضامن في مواجهة الأحادية والحمائية الغربية، وكيف
تُستقبل هذه الرسائل في منطقة عانت طويلاً من التدخلات الأجنبية. كما سنحلل
البرامج الخمسة للتعاون التي أعلنها شي – التضامن، التنمية، الأمن، الحضارة،
والحوكمة العالمية – كوسائل لتعزيز النفوذ الصيني، مع التطرق إلى المصالح المتبادلة
التي تشكل هذه العلاقة: من الطلب الصيني الهائل على المواد الخام والغذاء، إلى سعي
أمريكا اللاتينية نحو أسواق جديدة واستثمارات وبدائل تمويل.
غير أن هذا التحليل النقدي يقتضي تجاوز
البيانات الرسمية. لذلك سنغوص في التحديات التي تطرحها هذه الشراكة:
هل تشكل سياسة "عدم التدخل"
فرصة حقيقية لتعزيز الاستقلالية الإقليمية؟ أم تخفي خلفها أشكالًا جديدة من
التبعية؟ وكيف تُدار المخاوف المتعلقة باستدامة الديون، والآثار البيئية لمشاريع
البنية التحتية الضخمة في إطار مبادرة الحزام والطريق، وشفافية الاتفاقيات؟
وأخيرًا، سنقارن النهج الصيني بنهج
الفاعلين التقليديين في المنطقة كواشنطن وبروكسل، لفهم اللوحة الجيوسياسية التي
تجد فيها أمريكا اللاتينية نفسها اليوم مضطرة لتحقيق توازن بين الفرص الاقتصادية
والحفاظ على سيادتها ونماذجها التنموية في عالم سريع التحول.
السياق التاريخي وتطور
العلاقات الصينية–اللاتينية: من سفينة مانيلا إلى منتدى الصين–سيلاك
لفهم أبعاد خطاب شي جين بينغ في الاجتماع
الوزاري الرابع لمنتدى الصين–سيلاك، لا بد من استعراض العلاقات
التاريخية التي تربط الصين بأمريكا اللاتينية والكاريبي. فعلى الرغم من أن هذه
العلاقات تبدو حديثة نسبيًا، خاصة مع صعود الصين في القرن الحادي والعشرين، إلا أن
جذورها تمتد إلى قرون مضت، كما أشار شي نفسه إلى زمن "سفينة الصين" أو
"سفينة مانيلا" التي ربطت آسيا بأمريكا عبر المحيط الهادئ منذ القرن
السادس عشر، ميسّرةً التبادل التجاري والثقافي بين العالمين.
لكن، وعلى مدى القرنين التاسع عشر
والعشرين، كانت العلاقات متقطعة ومحدودة، تميزت بوجود جاليات صينية مهاجرة في دول
كالبيرو وكوبا والمكسيك، بينما لم يكن للبعد الجيوسياسي وزن يُذكر، في ظل انشغال
الصين بمشاكلها الداخلية. ومع اندلاع الحرب الباردة، ازدادت تعقيدات العلاقة نتيجة
الانقسامات الدولية بين من يعترف بجمهورية الصين الشعبية ومن يحتفظ بعلاقات مع
تايوان.
وبدأ التحول الجذري مع مطلع الألفية
الثالثة، حيث تزامن صعود الصين الاقتصادي وانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية
عام 2001، مع رغبة العديد من دول أمريكا اللاتينية في تنويع علاقاتها التجارية
ومصادر استثماراتها، في ظل تراجع الثقة بسياسات التكيف الهيكلي و"توافق
واشنطن" خاصة في ظل عودة ترامب والحرب التجارية الامريكية على الصين. هذا
التلاقي أطلق مرحلة جديدة من الانفتاح المتسارع بين الجانبين.
في البداية، تركزت العلاقة على التبادل
التجاري. فسرعان ما أصبحت الصين وجهة رئيسية لصادرات أمريكا اللاتينية من المواد
الأولية (فول الصويا، النحاس، الحديد، النفط)، وفي المقابل غزت المنتجات الصينية
الأسواق اللاتينية. وقد تجاوز التبادل التجاري بين الطرفين 500 مليار دولار في عام
2024، كما أشار شي. غير أن هذا النمو المطرد لم يخلُ من تبعات سلبية، أبرزها تعميق
الطابع الاستخراجي لاقتصادات المنطقة وتهديد الصناعة المحلية.
تزامن ذلك مع ارتفاع ملحوظ في الاستثمارات
الصينية، خاصة في قطاعات الطاقة، البنية التحتية، التعدين، والزراعة، إضافة إلى
التمويل الذي وفرته بنوك التنمية الصينية، غالبًا بشروط أقل تقييدًا من المؤسسات
الغربية، لكن مع تزايد التساؤلات حول الشفافية والاستدامة والامتثال للمعايير
البيئية. ومثّل تأسيس منتدى الصين–سيلاك
في عام 2014 نقطة تحول مؤسساتية، حيث أصبح الإطار الرسمي للتعاون الشامل بين الصين
و33 دولة في المنطقة. أُطلقت برامج عمل طموحة (2015-2019 و2022-2024)، كما انضمت
معظم دول أمريكا اللاتينية إلى مبادرة الحزام والطريق، ما عزز ارتباطها برؤية بكين
للعولمة البديلة. ويعد ميناء تشانكاي في البيرو مثالًا على المشاريع الرمزية لهذه
الشراكة.
ولكن هذه العلاقة ليست محصنة من
الانتقادات. فبالرغم من خطاب الصين حول "الفوز المشترك" و"الاحترام
المتبادل"، تبرز هواجس من الوقوع في فخ ديون جديدة، أو التبعية لأسواق الصين،
فضلًا عن تداعيات بيئية واجتماعية للمشاريع الكبرى. وقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن
مكامن ضعف مرتبطة بالاعتماد على الصين في سلاسل الإمداد الحيوية.
على ضوء هذا المسار، يمثل خطاب شي في
الاجتماع الوزاري الرابع بداية لمرحلة جديدة، حيث تسعى الصين إلى ترسيخ دورها ليس
فقط كشريك اقتصادي، بل كفاعل جيوسياسي يدفع نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، مدّعيًا
الدفاع عن سيادة دول الجنوب. المشاركة الرفيعة المستوى من قبل قادة كـ لولا دا سيلفا،
غوستافو بيترو، وغابرييل بوريك في هذا الحدث تعكس استعدادًا للانخراط، ولكن أيضًا
الحاجة لصياغة استراتيجية إقليمية موحدة تحمي مصالح أمريكا اللاتينية في علاقة
يزداد فيها التداخل بين الاقتصاد والجيوسياسة.
يتبع...
#الصين
#أمريكا_اللاتينية
#العلاقات_الصينية_اللاتينية
#التنين_الصيني
#الجنوب_العالمي
#شي_جين_بينغ
#سيادة_الدول
#عدم_التدخل
#النظام_العالمي_الجديد
#منتدى_الصين_سيلاك
#بكين2025
#التحول_الجيوسياسي
#الطريق_إلى_عالم_متعدد_الأقطاب
#استقلال_لاتيني
#المبادرة_الصينية
#الصين_شريك_استراتيجي
#خطاب_شي_جين_بينغ
#مشاريع_الحزام_والطريق
#التعاون_جنوب_جنوب
#التمويل_الصيني
#النفوذ_الصيني
#الشراكة_مع_الصين
#الصين_والسيادة
#الصين_في_أمريكا_اللاتينية
#من_مانديلا_إلى_بكين
#من_الفضة_إلى_البنية_التحتية
#خطاب_يصنع_التحولات
0 تعليقات
كل التعليقات تعبر عن رأي صاحبها وليست لها علاقة بموقع المكسيك بالعربي